قديما قالوا: "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".. ولست أدري كيف
انطلق أصحاب الأمثال ورواتها يتحدثون ويهيمون في فضيلة السكوت على جميع
أوضاعها، فإذا كان الكلام أحيانا (وأحيانا بمعنى الندرة) من فضة فإن السكوت
حينها يكون من ذهب، فالسكوت أفضل من الكلام على أي حال.
فضيلة الكلام
وضاربوا
الأمثال ورواتها لم يذكروا ولم يرووا لنا مثلا يبين فضيلة الكلام، ولم
يحضوا عليه على أي حال وفي أي وقت، فكأن الثقافة العامة والهدف هو السكوت..
ثم السكوت.. ثم السكوت.
هذه
الأمثال تعبر عن واقع فعلي موجود، فالكل أصبح يفضل الصمت، وقد يتكلم..
ولكن خلسة وخفية كأنما يتوارى أو يستر عورة الكلام، سواء كان هذا الكلام
بحق أو بدون حق؛ لدفع ظلم أو إبراء ذمة، أو لا، فكل الكلام سواء، ولا تتكلم
إلا إذا كنت "مسنودا" أو لك "ظهر" يحميك ويقيك سياط الظالمين، وهذا الظهر
لن يكون بالطبع إلا من الظالمين أنفسهم.
ولست
أدري كيف تسلل هذا الكم من المذلة والمهانة إلى مجتمعاتنا وثقافتنا؟! وكيف
تناسى المجتمع فضيلة الكلام، على الرغم من أن ديننا – الذي هو مكون أساسي
في ثقافتنا - حض على قول الحق، ولم يجعل السكوت أفضل من الكلام إلا إذا كان
الكلام بِشرٍّ؟! فالله خلق لنا اللسان لننطق ونتكلم فيما يرضيه، بل جعل
الله عدم النطق والكلام مذمة وعلامة بارزة على ضعة الأصنام وعدم أهليتها
للعبادة، فقال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: {{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } (الأنبياء :
63)، فكفى بالأصنام ضعة ودنوا عدم كلامها، وألا تعرف معروفا ولا تنكر
منكرا.. فكيف تُعبد وتُتخذ أربابا؟! وقد شعر قوم سيدنا إبراهيم بهذا الخزي
فنكسوا على رءوسهم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
هَؤُلَاء يَنطِقُونَ } (الأنبياء : 65).
وكفى
كذلك بالنطق فضلا أن جعل الله الحقيقة التي يقسم بذاته عليها مثل النطق،
فقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا
أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الذاريات : 23).. ولكننا لم نعد ننطق!!
لقد
أعلى رسول الله من شأن الكلمة حتى جعلها أحب الجهاد؛ فعَنْ أَبِي
أُمَامَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَحَبُّ الْجِهَادِ إِلَى اللَّهِ كَلِمَةُ حَقٍّ تُقَالُ لإِمَامٍ
جَائِرٍ".. ولكننا أخرسنا ألسنتنا، وحتى إذا قال أحد لأخيه شيئا أشار له
بأصبعه على فمه.. يعني أن اكتم ذلك عني.
ثقافة الخَرَس
إننا
نعاني من ثقافة الخرس التي تجتاح مجتمعنا، وحضارة الخُرس لا تعلو أبدا،
فحتى عندما يتكلمون يكون كلامهم مما لا يستتبع عملا ولا يستنهض همما، فهو
وعدمه سواء، لا فرق بينهما، وتضيق مساحة الكلام المسموح، وتخط للمباح حدودا
لا يتخطاها وتفشو مساحات الخرس.
وكلما
زادت مساحات الخرس وطغت على مساحات الكلام المفيد تواضعت حضارة تلك الأمة
وزادت مساحات الكلام غير المفيد أو الكلام الأخرس! ورأينا الهمة والنخوة
تهورا، والنجدة ولو بالكلمة فعلا أهوج.
ثقافة
الخرس تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء الصمت المطبق على ما يجري من حصار غزة،
فهذا هو الطغيان الذي لا يختلف عليه اثنان.. ولكن لا كلمة ترده، ولا فعل
يمنعه، إنه الخرس وثقافة السكوت التي يتجرعها مجتمعنا ويرددها ويعلمها
أبناءه جيلا بعد جيل.. فصارت تدرَّس للناشئة بعدما كان العرب يعلمونهم
معاني النجدة والمروءة وإجابة الصريخ.
الآن
يصير السكوت من "قهر" وليس من ذهب.. سكوتا تحت وطأة لقمة العيش وكسل الهمة
وعجز القدرة، سكوت القهر المادي والمعنوي، فلا نسمع المساجد تضج بالدعاء
كعادتها لشعب مسلم يموت جوعا، ولا الخطباء يتكلمون عن أكثر من 1.5 مليون
مسلم يبيت كل منهم يتلوى من شدة الجوع.. كل كاتب يكسر قلمه عما يحدث في غزة
يكسره قهرا.. وكل خطيب يسكت صوته عما يحدث في غزة يسكته قهرا.
ويأخذ
القهر في كل حالة شكله وأسلوبه؛ فهنا تحت تعليمات الوزارة تارة، أو تحت
المحافظة على لقمة العيش تارة أخرى، أو ربما لأن القراء سيكرهون وخز
ضمائرهم تارة ثالثة، أو قد يكون الكاتب ذاته كره أن يوقظ ضمير نفسه رابعة،
وفي كل الأحوال تجلى في غزة السكوت قهرا.. فعند الحديث عن غزة لا يكون
السكوت من ذهب، ولكنه من "قهر".