الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة
وقصّر به ءامال القياصرة الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة،
حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور،
ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ومن ملاعبة الجواري
والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب
إلى التمرغ في التراب، ومن أنسال عِشرة إلى وحشة الوحدة،
ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل.
أمابعد:
فجدير بمن الموتُ مصيره، والتراب مضجعه والقبر مقره وبطن الأرض مستقره،
والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت،
ولا ذكر إلا له ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه،
ولا تطلع إلا إليه ولا تعريج إلا عليه ولا اهتمام إلا به، لأن كل ما هو ءات قريب.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الكيّس من دانَ نفسه وعملَ لما بعد الموت"
فما بقي من العمر إلا القليل والخلق عنه غافلون
وقد قال الله تعالى: "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون"
(سورة الأنبياء ءاية1).
إنَّ المنهمك في الدنيا المحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره،
وإن ذكّر به كرهه ونفر منه، أولئك الذين قال الله تعالى فيهم:
" قل إنّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".(سورة الجمعة ءاية 8.)
فالمنهمك في الدنيا لا يذكر الموت، أما التائب فيكثر من ذكر الموت
لينبعث من قلبه الخوف والخشية فيفي بتمام التوبة،
ولربما كره الموت خيفة أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد،
كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه،
فلا يُعد كارهًا للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه.
وأما العارف فإنه يذكر الموت دائمًا وهذا في غالب الأمر يستبطىء مجيء الموت
ويحب مجيئه للتخلص من دار الفناء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات''
أي قاطعها، معناه نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها
قتقبلوا على طاعة الله، فذكر الموت يسبّب التجافي عن دار الغرور.
وقد روى الطبراني والحاكم من حديث ابن عمر مرسلا
أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " تحفة المؤمن الموت"
وإنما قال هذا لأنّ الدنيا سجن المؤمن، إذ لا يزال في عناء من مقاساة نفسه،
ومدافعة شيطانه، فالموت إطلاق له من العذاب، والإطلاق تحفة فيحقّـه.
والموت مكدّر اللذات، ومفرّق الجماعات فقد روى ابن أبي الدنيا مرسلا
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " كفى بالموت مُفرقِّا"
والموت فيه موعظة بليغة فقد قال بعض العلماء الصالحين
وهو الفضيل ابن عياض:" كفى بالموت واعظـًا".
ويكفي ذاكري الموت شرفًا أنهم من أعقل الناس لقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
لما سأله رجل من الأنصار، من أكيس الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أكثرهم ذكراً للموت واشدهم استعداداً له " رواه ابن أبي الدنيا وابن ماجه.
ومن نِعم الله علينا الموت أن ذكره يزيل قساوة القلب ويرقق القلب.
قالت صفية رضي الله عنها أن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها
قساوة قلبها فقالت:
"أكثري ذكر الموت يرق قلبك" ففعلت فرقَّ قلبها.
فكم نحن اليوم بحاجة إلى تعلم علم الدين أولا الفرض العيني المفروض على كل مكلف
ثم الإكثار من ذكر الموت ذكراً حقيقياً نابعاً من قلب حاضر يرجو النجاة في الآخرة
حتى يكون هذا الذكر قاطعاً للتوغل في الإعراض عن الآخرة ،
وما ابلغ قول بعض العلماء الوعاظ لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
حين قال له: عِظني فقال:" لستَ أول خليفة تموت، قال : زدني،
قال: ليس من ءابائك أحد إلى ءادم إلا ذاق الموت، وقد جاءت نوبتك"
فبكى سيدنا عمر لذلك .
فمن ذكر الموت بصدق وإخلاص واستعد لهو للقاء الله تعالى
بالتهيؤ للحساب فإنّ هذا من التقوى والصلاح.
فمن اتقى الله فلا وحشة عليه في قبره ولا في حشره ولا في منشره.
وقيل لرجل صالح من التابعين عند موته"أوصنا"
فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل
'' إنَّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون''.
وقد بيّن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن أكثر ما يُدخل الناس الجنة
تقوى الله وحُسنُ الخُلق.
وتقوى الله تعالى تكون بأداء الواجبات واجتناب المحرمات.
والله تعالى قال: ''ولقد أوصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله''.
وقال ميمون بن مهران:
" المتقي اشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
فالمتقون لا ينسون ذكر الموت، وهم دائماً على استعداد له ولملاقاة
سيدنا عزرائيل عليه السلام لقبض أرواحهم، فقد كانوا يسمون الموت حبيبًا
كما قال سيدنا حذيفة رضي الله عنه.
نسأل الله التوفيق والنجاة والاستقامة والسداد والرشاد
ونسأل الله أن يصلح أمر هذه الأمة وأن يلطف بها.
والحمد لله رب العالمين.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~